ليس بالهدم فقط: الحكومة الاسرائيلية تعلن الحرب على هوية العرب في النقب - مركز مساواة لحقوق المواطنين العرب في اسرائيل

ليس بالهدم فقط: الحكومة الاسرائيلية تعلن الحرب على هوية العرب في النقب

شارك مع أصدقائك

بقلم: بكر جبر زعبي

منذ النكبة وحتى اليوم، لم تتوقف حكومات إسرائيل عن التعامل مع الفلسطينيين في النقب باعتبارهم “خطأ تاريخيًا” يجب تصحيحه. الأرض صودرت وبقي الصراع على 2% من أرض النقب، القرى أُبقيت بلا اعتراف، العائلات حوصرت بالفقر والحرمان، وبمصادرة الأرض صودر مصدر الرزق وتحول صاحب الأرض والمزارع الى عاطل عن العمل، والجرافات لم تغب يومًا عن المشهد وخصوصًا بالسنوات الأخيرة. لكن أخطر ما في هذه السياسة أنها لم تُقدَّم يومًا كاستثناء أو ظرف مؤقت، بل كخطة طويلة المدى هدفها واحد: تفكيك المجتمع الفلسطيني في النقب وإعادة تشكيله وفق معايير حددتها الأحزاب السياسية التي سيطرت على الحكم، عبر تجميعه في تجمعات اسمنتية أو حتى تهجيره. في الأسبوع الماضي هُدمت عشرات البيوت في قرية السر، لتصبح القرية عنوانًا جديدًا لمعاناة قديمة متجددة. لم تكن تلك المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، على ما يبدو. وما حدث مع قرية السر مؤخرا يشبه الى حد بعيد ما حدث مع قرية العراقيب بالسابق او قرية ام الحيران التي تم تدميرها ونقل سكانها الى قرية حورة بعد قتل المعلم يعقوب أبو القيعان.

القرار الحكومي الأخير الذي صادقت عليه حكومة إسرائيل يوم الاحد 21.9.2025 يكشف عمق الإستعلاء العنصري المسيطر في الحكومة الحالية . وزير الشتات ومكافحة “معاداة السامية”، عمِيخاي شيكلي، قدّم خطة واسعة صودق عليها بالإجماع تقريبًا، وتشكلت بموجبها أربعة طواقم وزارية بين-مؤسساتية. أهدافها صريحة وخطيرة: وقف ما تسميه الدولة “الفلسطنة” في النقب، تعزيز الهوية الإسرائيلية، تشجيع الخدمة العسكرية والوطنية، وإعادة تنظيم الحكم المحلي. هذه الطواقم مُلزمة بتقديم توصيات خلال 90 يومًا، تُرفع لاحقًا إلى لجنة خاصة برئاسة مدير عام وزارة الشتات لتتحول إلى قرار حكومي ملزم خلال خمسة أشهر.
لقراءة القرار كاملًا - اضغطوا هنا

 

يطرح هذا المشروع أسئلة أساسية: أي دولة تعلن رسميًا أن انتماء جزء من مواطنيها لشعبهم وثقافتهم وهويتهم خطر يجب محوه؟ وكيف يمكن أن تُسمى خطة كهذه “إصلاحًا” أو “تنمية”، وهي في حقيقتها مشروع اقتلاع سياسي وثقافي يتكامل مع مشروع الهدم والبطالة ومصادرة الأرض؟

يشمل القرار تشكيل طاقم حكومي لـ”معالجة” الزواج بين رجال من النقب ونساء من الضفة أو غزة. تعتبر الحكومة الروابط العائلية والإنسانية “تهديدًا”، لأنها تعزز صلة الفلسطيني في النقب بأشقائه الفلسطينيين وراء الخط الأخضر، الذي يفصل الفلسطيني ويسمح لليهودي الاستيطان من طرفيه. تتدخل الدولة في أدق تفاصيل الحياة الشخصية، محاولة قطع وشائج الدم والقرابة، وكأن المطلوب عزل النقب عن شعبه بأكمله. هذا البند وحده يكشف أن المسألة ليست “إدارة محلية” أو “مشكلات اجتماعية”، بل مشروع سياسي استعماري يهدف إلى تفكيك المجتمع وسلخه عن هويته. ينضم هذا الإقتراح الى تعديل قانون المواطنة "المؤقت"، والذي يتم تمديده منذ عام 2003، والذي يمنع المواطنة لمن يتزوج من الضفة الغربية وقطاع غزة.

في الوقت ذاته، يركز القرار على “تعزيز الهوية الإسرائيلية”. إنتاج برامج تربوية وثقافية تمحو الهوية الفلسطينية وتعيد صياغة وعي الأجيال، وتحويل الانتماء إلى الدولة بديلاً عن الانتماء للشعب والأرض والتاريخ. هذا ليس تعليمًا، بل هندسة هوية جماعية، تستخدم المدرسة كجرافة صامتة تهدم اللغة والثقافة والذاكرة. ومما يُخشى أن يتمثل ذلك عمليًا في فرض العبرية لغةً مركزية وتهميش العربية، في خطوة أخرى لعزل الفلسطينيين عن جذورهم الثقافية. وفي هذا السياق، يبرز إدخال جنديات كمعلمات في مدارس النقب، وهو أمر بالغ الخطورة: أولاً لأنه يستهدف هوية الطلاب عبر تربية هدفها النهائي تجنيدهم للجيش وإبعادهم عن هويتهم الفلسطينية، وثانيًا لأنه يشكل تهديدًا لفرص عمل النساء العربيات خريجات الجامعات وكليات إعداد المعلمين، إذ تعاني آلاف المعلمات العربيات من البطالة. إدخال الجنديات يضرب آخر معاقل فرص العمل للنساء في التعليم، في وقت جرى فيه أيضًا إلغاء شرعية شهادات الجامعات الفلسطينية، ما يعني إقصاء إضافيًا للكوادر العربية وتداعيات خطيرة على هوية التعليم وفرص العمل.
ونشير في هذا السياق الى نجاح مشروع "بناء الهوية الدرزية" الذي تنفذه الوزارات الحكومية وعلى رأسها وزارة التربية بهدف سلخ العرب الدروز عن شعبهم واستغلالهم لممارسة الاحتلال على شعبهم دون حصولهم على أدنى الحقوق المدنية ومنها الحق في السكن والتخطيط والآرض. حيث تم تعميشهم مع باقي أبناء شعبهم من خلال قانون القومية ويتم ملاحقتهم من خلال تعديل كمينيتس على قانون التخطيط والبناء.

الطاقم الثالث في الخطة مخصص لتشجيع الخدمة العسكرية والوطنية. أي أن الشباب الفلسطيني، الذين يرون بيوتهم تُهدم يوميًا ويرون على بعد كيلومترات قليلة منهم عائلاتهم في قطاع غزة عملية إبادة شاملة، يُطلب منهم في المقابل أن يحملوا السلاح لخدمة المؤسسة ذاتها التي تهدم بيوتهم وتقتلع قراهم وتقتل وتحاصر أبناء شعبهم. هذه المفارقة القاسية ليست عبثًا، بل جزء من السياسة: تحويل الضحية إلى أداة في يد الجلاد، وإعادة إنتاج شباب النقب كقوة تابعة بدل أن يكونوا جزءًا من مجتمعهم وجزء من معسكر السلام الحقيقي بين الشعبان.

أما الطاقم الرابع، فيتعلق بالحكم المحلي. الحكومة تريد إعادة رسم الخريطة التنظيمية للمجالس التي تخدم القرى البدوية المعترف بها وغير المعترف بها. لكن بدل أن توسّع هذه المجالس وتمنحها صلاحيات وموارد مثل نظيراتها اليهودية، تتجه الخطة إلى مزيد من التقييد والسيطرة. النتيجة أن السلطات المحلية في النقب ستبقى ضعيفة وفقيرة، محاصرة بلا موارد، غير قادرة على تقديم الخدمات، ليبقى الفلسطيني في النقب محاصرًا بين حرمان اقتصادي وتهميش سياسي.

هذه البنود ليست معزولة عن الواقع الميداني. فهي امتداد مباشر لسياسة الهدم التي تصاعدت في العامين الأخيرين، وتجسيد للتحريض المستمر الذي يصور الفلسطينيين في النقب كخطر ديمغرافي وجريمة منظمة. ما تفعله الحكومة هو تقنين هذه السياسة وتحويلها إلى قرار رسمي، بحيث يصبح الهدم وتشويه الهوية وتجريد المجتمع من روابطه العائلية الوطنية والثقافية سياسة مُعترفًا بها، وليست مجرد ممارسة. ولم يكن هدم قرية السر الأسبوع الماضي سوى مثال حي على هذا الربط بين الورق والواقع: خطة وزارية من جهة، وجرافة لا تتوقف من جهة أخرى.

من خلال متابعة مركز مساواة لقضايا العنصرية في الداخل، يتضح أن نصيب أهل النقب من هذه السياسات كان دائمًا كبيرًا. إذا قورنت بقية التجمعات العربية، نجد أن النقب هو الساحة الأكثر استهدافًا: حيث يُنفذ معظم أوامر الهدم، حيث تُمارَس سياسات الحرمان بشكل أشد، وحيث تتجلى عنصرية الدولة في أوضح صورها. القرار الأخير ليس خروجًا عن هذا السياق، بل استمرارية وتصعيد.

الشارع لم يصمت. التظاهرات التي خرجت في مدينة بئر السبع الأسبوع الماضي وخلال الأشهر الآخيرة ضد سياسة الهدم والتمييز كانت مهمة، وكانت عبارة عن صرخة قوية ضد الجرافات ومعاول الهوية. وبرزت تظاهرة “العزة والكرامة” التي نُظمت مؤخرًا كرسالة واضحة بأن الفلسطينيين في النقب متمسكون بحقوقهم وهويتهم رغم كل السياسات. لكن هذه التحركات، على أهميتها، تكشف أيضًا الحاجة إلى تصعيد النضال. إذا كانت الحكومة تصعّد إلى مستوى اللجان الوزارية والقرارات الحكومية، فإن الرد الشعبي يجب أن يرتقي أيضًا: ربما بنصب خيام احتجاجية أمام الوزارات، أو أمام بيوت الوزراء أنفسهم، أو حتى أمام السفارات الأجنبية. العالم يجب أن يرى ويسمع أن ما يحدث في النقب ليس “إصلاحًا”، بل مشروع اقتلاع مادي ومعنوي لمركب مركزي في شعبنا ويتكامل مع الاقتلاع الذي يحدث في غزة والضفة وسيصل الى الشمال بحال لم يتم التصدي له وفضحه ووقفه.

الصمت الدولي أمام ما يحدث في النقب لم يعد مقبولًا. جزء كبير من العالم لا يعرف أصلًا تفاصيل قضايانا: الجريمة المنظمة التي تُغذّى عن قصد، البيوت التي تُهدم يوميًا، الأراضي التي تُصادر بلا توقف، والتمييز الذي يطبع كل مناحي الحياة. ومن يعرف، يتعامل معها وكأنها شؤون “داخلية إسرائيلية”، متجاهلًا أنها جريمة استعمارية ممنهجة. صحيح أن ما يعيشه الفلسطينيون في الداخل لا يقارن بالإبادة في غزة أو الاقتلاع في الضفة، لكنه لا يقل مصيرية، لأنه يتعلق بحقنا في البقاء على أرضنا بهويتنا الكاملة. وهي محاولة لتصليح ما لم يتم تنفيذه عام 1948 كما هدد وزير المالية الفاشي سموتريتش.

هدم البيوت وتشويه الهوية وتجريد الناس من حقوقهم الأساسية ليس شأنًا محليًا ولا نزاعًا إداريًا، بل جريمة مستمرة تتطلب موقفًا عالميًا واضحًا. المطلوب أن تتكامل أشكال النضال الشعبي في الداخل مع الضغط الحقوقي والسياسي في الخارج، حتى يُكسر جدار الصمت، ويُكشف المشروع العنصري على حقيقته، ويُفرض على الدولة الاعتراف بحقوق المواطنين العرب الفلسطينيين في الداخل باعتبارها حقوقًا غير قابلة للتصرف، وليست منّة من سلطة استعمارية.

مواصلة عمليات هدم المنازل تلزمنا بنقل نضالنا امام بيوت ومكاتب الوزراء والوزارات بدل مواجهتها امام بيوت الناس في النقب، الجليل او المثلث.

اشترك في القائمة البريدية
ادخل بياناتك لتبقى على اطلاع على اخر المستجدات
ارسل